تحليل مقارن لقانون المسؤولية التقصيرية في الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية
استكشاف قضية براون ضد كيندال وقانون المعاملات المدنية السعودي (المادتان 120 و128)
المقدمة
تنطلق المسؤولية التقصيرية في القانون السعودي من القاعدة الأساسية: “لا ضرر ولا ضرار.” هذه القاعدة التي تحكم التعويض عن الضرر كانت مطبقة منذ القرن التاسع عشر، حيث يعكس قانون المعاملات المدنية السعودي الحديث تنظيم المسؤولية عن الأفعال غير المشروعة في نصوص واضحة تتماشى مع الاتجاهات القانونية المقارنة، سواء في النظام القانوني الأنجلوساكسوني (القانون العام) أو النظام القانوني اللاتيني (القانون المدني). يستعرض هذا المقال توجهات القانون السعودي مقارنةً بنظيره الأمريكي.
أولًا: قانون المعاملات المدنية السعودي
في المملكة العربية السعودية، تقوم المسؤولية التقصيرية على مبدأ “لا ضرر ولا ضرار.” وبالتالي، يرتبط التعويض عن الضرر بشكل مباشر بوجود الخطأ. ومن المهم الإشارة إلى أنه في القرن التاسع عشر لم يكن القانون السعودي مدونًا في وثيقة تشريعية واحدة، بل كان مستمدًا من الفقه الإسلامي، وكان القاضي يطبق الأحكام بناءً على تفاصيل كل قضية على حدة.
خلال العقدين الماضيين، أطلقت وزارة العدل جهودًا لتوثيق السوابق القضائية من أجل الاسترشاد بها، إلا أنها لم تكن ملزمة. لا يتبع القانون السعودي نهج القانون العام فيما يتعلق بالسوابق القضائية، بل يعتمد على المنهج المدني في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. وفي عام 2023، تم تدوين القانون المدني السعودي في وثيقة تشريعية واحدة، حيث تم اختيار النصوص القانونية التي استقر القضاء السعودي على تطبيقها منذ تأسيسه في القرن الثامن عشر. وتمت صياغة هذه النصوص بشكل قانوني يتماشى مع الصياغة التشريعية المعتمدة في الدول الأخرى.
أحد الجوانب المهمة في القانون السعودي هو معالجته لمسألة الخطأ المشترك، كما يتضح في المادة 128 من قانون المعاملات المدنية.
ومن الأمثلة القضائية التي سلطت الضوء على هذا المبدأ قضية حدثت عام 2012 (رقم قضية الاستئناف 943/ق لعام 1433هـ). حيث كان هناك قريبان يدرسان في نفس الجامعة، وقام أحد الموظفين بتسجيل كلا الشخصين تحت نفس الرقم الجامعي عن طريق الخطأ. استمر هذا الخطأ لسنوات، مما أدى إلى استفادة أحدهما من الأداء الأكاديمي العالي للآخر في بعض المواد. وقد أصدرت المحكمة حكمها بما يلي:
“لم يكن ليفوت ذلك على المدعي، خاصة وأنه أقر أمام الدائرة بأنه اشترك مع عمه في ثلاث مواد خلال كل فصل دراسي، وأن نتائجهما كانت متطابقة. هذا يعني أنه ساهم في استمرار الخطأ. بل إن مسؤوليته أكبر، نظرًا لاستفادته من الرقم الجامعي المشترك بينما لم تكن المدعى عليها على علم بذلك. وعليه، ترى الدائرة أن المدعي شارك في الخطأ، وبالتالي لا يحق له المطالبة بالتعويض.”
وبالتالي، رفضت المحكمة طلب التعويض، مؤكدة على مبدأ أن المشاركة في الخطأ تقلل أو تلغي الحق في المطالبة بالتعويض.
ثانيًا: قانون المسؤولية التقصيرية الأمريكي وقضية براون ضد كيندال
انفصل قانون المسؤولية التقصيرية الأمريكي لأول مرة عن نظيره الإنجليزي بعد قضية مفصلية في القرن التاسع عشر عرفت باسم “كلاب القتال”، والتي نشأت بين السيد براون والسيد كيندال. أثناء الواقعة، أمسك كيندال عصا طويلة وحاول الفصل بين الكلاب المتقاتلة بضربها. في هذه الأثناء، كان براون يقف خلف كيندال ويراقب محاولته. ولسوء الحظ، بينما كان كيندال يرجع إلى الخلف وهو يلوح بالعصا، ضرب براون في عينه عن طريق الخطأ، مما تسبب له في إصابة بالغة.
وصل النزاع في النهاية إلى المحكمة القضائية العليا في ولاية ماساتشوستس، والتي قضت بأن كيندال تصرف بشكل قانوني في محاولته لفض النزاع، ولم يكن مهملًا في استخدامه للعصا. بل إن المحكمة أشارت إلى أنه إذا كان هناك أي إهمال، فقد يكون على عاتق براون نفسه، لأنه وقف على مقربة غير آمنة من كيندال مما عرضه للخطر. بما أن كيندال كان يركز على الكلاب، كان ينبغي على براون أن يكون أكثر حذرًا.
عزز هذا الحكم قاعدة قانونية راسخة تعرف باسم الإهمال المشترك (Contributory Negligence)، والتي تمنع الشخص البالغ الذي ساهم في وقوع الحادث بسبب إهماله من المطالبة بتعويض عن إصابة عرضية. وأصبحت هذه القضية حجر الأساس في تطوير قانون الإهمال في الولايات المتحدة، حيث ميزت بين القواعد الأمريكية ونظيرتها في القانون الإنجليزي.
ثالثًا: الأبعاد القانونية والفلسفية
يكشف التحليل المقارن لقضية براون ضد كيندال وقانون المعاملات المدنية السعودي عن عدة رؤى:
- العدالة المتوازنة: يسعى كل من القانون السعودي والقانون الأمريكي إلى تحقيق توازن بين المسؤوليات، بحيث يتحمل المتسبب في الضرر تبعات أفعاله.
- التطور والتدوين: تطور القانون الأمريكي للمسؤولية التقصيرية من خلال السوابق القضائية، بينما اختار القانون السعودي نهجًا تدوينيًا واضحًا يضمن استقرار القواعد القانونية ويحد من سلطة القاضي في تجاوز حدود النص القانوني.
- الاختلافات الثقافية والفقهية: يعكس النظام الأمريكي توجهًا نحو التعويضات العقابية والردع، حيث يتم فرض تعويضات زجرية في بعض الحالات. في المقابل، يركز القانون السعودي على تحقيق تعويض عادل ومتوازن دون المغالاة في العقوبات المالية. ومع ذلك، هناك بعض الحالات التي تجمع بين العقوبة الجنائية والتعويض المدني، كما هو الحال في قانون الأسواق المالية السعودي، حيث تم الحكم بمصادرة الأرباح غير المشروعة إضافة إلى فرض عقوبات مالية جنائية وتعويضات مدنية للمساهمين المتضررين.
رابعًا: الخاتمة
تتبنى المحاكم نهجًا صارمًا في التعامل مع الإهمال، حيث تربط بين الأفعال غير المشروعة والأضرار الناتجة عنها. وبالمثل، يعالج القانون السعودي هذه المسألة من خلال إطار قانوني واضح ومُقنن، لا سيما فيما يتعلق بالخطأ المشترك.
إن استعراض هذه التجارب القانونية ليس مجرد إثراء أكاديمي، بل هو فرصة لتسليط الضوء على الفروق الدقيقة بين النظم القانونية المختلفة. ويجب على الممارسين القانونيين، سواء كانوا محكمين دوليين أو خبراء في تسوية النزاعات أو وسطاء قانونيين، أن يكونوا على دراية بهذه المبادئ وأخذها في الاعتبار في ممارساتهم. سواء في تقديم المشورة لشركة أمريكية تواجه دعاوى إهمال أو توجيه عميل سعودي في نزاع تعويضي، فإن الفهم العميق لهذه القواعد القانونية يعزز الاستراتيجية القانونية ويوسع نطاق الحوار حول العدالة والمساءلة.
إذا كنت بحاجة إلى استشارة قانونية أو لديك قضية قائمة، لا تتردد في التواصل مع المحامي خلف بندر خلف