خربشة بشرية!

إن حياة اللغة وحيويتها تكمن في إطارها الثقافي وبيئتها الحضارية، فاللغة ليست مجرد حروف تتشكل وفق ارتباطات وقواعد معينة، بل هي مرآة تعكس عمق الحضارات وتجسد أيقونتها الثقافية المتميزة، ويقول الرافعي إن الأمم تموت بزوال لغتها، فمفتاح الحضارة هي اللغة ولا وجود للأمم من دون فضاء ثقافي يحتويها، وإذا نظرنا إلى الحضارة اليونانية نجد أن فلسفة أفلاطون وأرسطو ابتكرت مصطلحات تشكلت بالحروف اليونانية، والتي بدورها نقلت هذه الحضارة إلى الرومان ومن بعدهم، ومن خلال الترجمة عكست لنا هذه الأعمال حالة المجتمع الثقافي في ذلك الوقت.

كلما اتسع الفضاء الثقافي للغة كلما اتسعت مساحتها الجغرافية وزادت أهميتها للعالم أجمع، أما نشر الحضارة فهو هدف سياسي للأمم ودليل على هيمنتها وعظمتها، ولذلك سعت دول كثيرة إلى تعزيز مكانتها الحضارية من خلال الاستعمار الثقافي، ورغم قلة مفردات اللغة الفرنسية إلا أنها نشرتها في كثير من الدول الأفريقية!

أما العربية لغة البيان والبلاغة والإعجاز فكانت لغة عالمية يتقنها الأعجمي قبل العربي ويفخر بها العالم حتى بلغ الأعجمي مثل هذا الإتقان والبراعة في اللغة العربية حتى سخر من العرب أنفسهم قائلا: أنا من أصل أعجمي وقد تفوقت على العرب في لغتهم، فقيل له: اذهب، إلى فلان فإن لم يميز أصلك فقد غلبتنا بلغتنا! فذهب إلى بيت العربي وطرق الباب فرأى ابنة صاحب البيت تسأل من الطارق فقال: أنا عربي أريد أن أكلم فلاناً، فقالت له: ذهب إلى الفيافي فإذا عاد الفيافي عاد، فقال لها: أين ذهب؟ فقالت لأمها: هذا أجنبي يسأل عن أبي.

لا عجب أن تصبح اللغة الإنجليزية الأمريكية لغة التعلم وشكلاً من أشكال التقدم، وهذا نتيجة حتمية للهيمنة الاقتصادية والسياسية والإعلامية الأمريكية. حتى أن اللهجة البريطانية بدأت في التراجع مقارنة بنظيرتها الأمريكية. ولا عجب أن بعض المفردات الإنجليزية مستمدة من اللاتينية الرومانية، التي تأثرت باليونانية. ولا أدري كيف كانت نتيجة تعريب هذه الكلمات، وهذا ما خلد الفلسفة اليونانية ونقلها إلى القرن الحادي والعشرين.

اللغة تتطور ولا تبقى ثابتة، والتطوير لا يعني الإحلال أو الاستبدال، بل التجديد والابتكار في الجوانب الأدبية، وقد تطورت القصيدة العمودية في العصر الأندلسي ـ وهذا يعكس لنا البعد الثقافي للدولة العباسية في ذلك الوقت ـ من خلال الأبيات الأندلسية.
هذه المقاطع التي أعتبرها نواة قصيدة التفائل الحديثة، خلقت تطوراً ثقافياً أثر على الكتابة النثرية، وشكل الخطب المنبرية، وما إلى ذلك.

إن بقاء الحضارة مرهون بإنتاجها الأدبي، والخطر المحدق هو كل ما يؤدي إلى تناقص المخزون الأدبي العربي، فوفقاً لرأي ابن خلدون لا يمكن للشاعر أن يكون شاعراً إلا إذا حفظ عشرة آلاف بيت، وتناقص المخزون الأدبي يجعل عملية التطور القادمة صعبة وقد تصل إلى حدود المستحيل، وتكرار المعاني التقليدية لن يؤدي بأي حال من الأحوال إلى خلق صور شعرية جديدة تشكل إضافة إلى المحتوى الثقافي بشكل عام، فمن تلا الجمل في سوق عكاظ قبل مئات السنين لم يؤثر على جودة قصائدنا المعاصرة، فالمحتوى الإبداعي والمبتكر وحده هو الذي يساهم في التطور.

ولعل أفضل خاتمة هي قول أحمد أبو زيد (المعاصر) حيث قال:
“كأننا مع وجود الماء حولنا، نجلس حول أشخاص معهم ماء.”

Khalaf Bandar
Khalaf Bandar
Even with all of the advances our country has made to digitize our economy and infrastructure, the legal process of joining the Saudi economy is not easy.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

This site is registered on wpml.org as a development site. Switch to a production site key to remove this banner.