صناعة القرار
إن اتخاذ القرار فن راقي، يتجلى في طيات المراسيم والمواقف التاريخية الخالدة، ولو بلغت المساعي مستوى السماء لطمس معالمها ما أمكن ذلك. ولن أطيل في وصف هذا الفن، وشرح تقنياته وقواعده، كما اعتاد كثير من الكتاب، ولكنني سأستعرض لكم واحداً من أهم القرارات التاريخية التي اتخذتها حكومة المملكة قبل أكثر من خمسين عاماً، وأنا على يقين من أنها تضاهي دولار نيكسون، إن صح التعبير.
قرار الحكومة السعودية بوقف العقود مع أي شركة أجنبية لا تجعل المملكة مقرها الرئيسي في المنطقة قرار شجاع جاء في وقت مناسب، أما قولنا بأنه شجاع فقد تكون بعض الشركات عنيدة وترفض اختيار المملكة مقرا رئيسيا لها، وفي المقابل ستقبل شركات كثيرة بالمملكة وكلها تأمل في أحد العقود الحكومية، وهذا غير معيار العقود الأجنبية من كونها قرارا سياسيا يراعي العلاقات المتبادلة مع الدول الصديقة للسعودية إلى كونها قرارا سياسيا يراعي المصالح الاقتصادية للمملكة العربية السعودية، بمعنى آخر اقتصادنا خط أحمر، أما توقيت القرار فهو مناسب جدا، لأن العالم بدأ يعترف بالمملكة كدولة كبرى استطاعت التأثير في القرارات الدولية، واستطاعت استضافة قمة العشرين، والإصلاحات الاقتصادية التي تنسجم مع مستوى عال من الشفافية، والإفصاح أصبح من مبادئ وأسس الإدارة السعودية، كل هذه العوامل. وغيرها مما عكس للعالم عمق واستقرار اقتصاد المملكة، وبالتالي يمكن القول إنها خيار استثماري ذو أولوية عالية، والأجمل من هذا أن هذا القرار سيعطي الاختصاص لمحاكم المملكة العربية السعودية، مما يقلل من هدر النفقات القضائية في حال حدوث نزاع لا قدر الله، كما يقلل من قضايا تنازع القوانين، مما يعزز مكانة الاقتصاد الإسلامي في العالم، ولا يخفى على المطلعين أن العقود تنظم وفق أحكام الشريعة الإسلامية، وعليه فإن عقود هذه الشركات لن تتضمن ما يخالف ذلك وإلا اعتبرت باطلة، كما سيعزز صحة أحكام التنفيذ ويعزز الاتفاقيات الدولية المعنية بتنفيذ الأحكام الأجنبية في البلدين، مما يحد بدوره من نزوح الأموال والتهرب من المسؤولية من قبل المدينين الأجانب، وهو ما سينعكس إيجاباً على القطاع القانوني والوساطة والتحكيم.
وقد يعلق قائل ويقول: إن هذه القراءة متفائلة جداً، وينبغي للمفسر أن يتذكر ما قاله طرفة بن العبد:
«ستبين لك الأيام ما كنت تجهل، ويأتيك الخبر عمن لم تزوِّده، ويأتيك الخبر عمن لم تبع له شيئاً، ولم تحد له ميعاداً».
